في حالة التمييع الثقافيّ السائدة، سيقول لك معارضُك، فكرياً، عبارةً شهيرة: ـ" هذا رأيك " عند كل حوار، مدّعياً أنه يحترم وجهة نظرك بعبارته. ونحن لا نرضى أن تُقال لنا هذه العبارة؛ فهي عبارةُ الضعفاء موهبةً وإبداعاً وثقافةً، ونحن لا نخاطبهم هنا.
هذه النقاط هي ملاحظاتنا على ما يُكتب من شعرٍ حالياً، خصوصاً من شعراء العقد الأول من الألفية الثالثة. ونحن نوجّهها لشعرنا أولاً ، فهو ليس بريئاً منها . وهي محاولة مساءلة نرغب بأن تشجِّع على المراجعة ، وأن تدفع لتحمّل المسؤولية الفنية تجاه هذا الكم من القصائد :
1ـ الميول الحداثية ـ عند الشاعر أو المتلقي ـ تدلّ على ثقافةٍ متجدّدة وتقبّلٍ للآخر. والسلفية الأدبية هي تقوقع ضدّ الثقافة والتفكير والإدراك وتطوّر الوعي؛ فالقصيدة لم تعدْ جهداً شخصياً خالصاً، بل هي تحتوي على كمٍّ من العالَم؛ نسمح له بالتداخل مع القصيدة بما يتلاءم مع المستوى الجيد من الذائقة، وبما يتلاءم مع رضى الشاعر الجيد عن هذا التداخل .
2ـ البُنية / القالب السائد في الشعر، في مرحلة ٍما، هو عمود شعر جديد، وهو مصطلحٌ سلبيٌّ عندما تبهُت البنية وتُستسهل.
3ـ القصيدة التي نُعجب بها لغةً وبنائيّةً، إذا لم تكن وراءها رؤيا، وربما رؤى، تقودنا إلى الطبقات الأعمق منها؛ فهي زخرفةٌ وبريقٌ وتجميع صور، وهذا سائدٌ لا نرغب به.
4ـ الجرأة الفنية أهمّ خطوة في كسر السائد، وتدلّ على ثقةٍ ونضوجِ وعيٍ.
5ـ المواضيع العامة ليست قادرة على خلق إبداعٍ وفرادة دائماً. لكن التعمّق بالجزئيّات المنسولة من هذه العموميّات، أو ما نسمّيه ( شعر الزوايا )، أكثر قدرةً على الابتكار، وأكثر بُعداً وطاقةً مجازية جمالية.
6ـ قصيدةُ ذاتِ الشطرين لم تفقدْ طاقاتها التعبيرية والإبداعية ، لكنها ليست خياراً صحيحاً لموضوعٍ متكاملٍ وعميق ؛ إضافةً إلى ما تحتاج إليه من تمكّنٍ ثقافيٍّ ووعيٍ حداثيٍّ وقدرة على البنائية وإخفاء النَّظْم.
7ـ النثر ـ المرفوع على حامل الشعر ـ لا يقلّ قيمةً إبداعية عن الشعر، إنّما قوّته تأتي من تجاوز عاديّة النثر ويوميّته وصولاً إلى حالة الشعر الجيد ، وربما إلى تجاوزها بتحقيق خصوصية إبداعية؛ وعند هذا الحدّ نشجّع هذا الفن بقوّة؛ لكننا نقترح تسميتَه بـ " حالة شعرية" أو ـ حسب الفارابي ـ " قول شعري ".
8ـ نصّ اليوميّات اتّجاه مرغوبٌ، وفيه جدّة؛ لكنّه يبقى كلاماً عاديّا إذا لم تكن نسبةُ الشعر فيه تعلو على عادية هذه اليومية وتشابهها في كل طريق ومهنة. ولا ننسَ هنا أن من خصائص شعر الانحطاط اللجوء إلى اليوميات وحديث المِهن، ممّا أدّى إلى كثرة الشعراء وانحطاط الشعر؛ ونحن نخشى أن يحتاج شعرُنا ـ إذا بالغنا في هذا المنحى ـ إلى جماعة إحياء جديدة تعيده إلى درجة الصفر ليتمكن من الانطلاق من جديد.
9 ـ قصائد الجسد والشهوانية ليست ( تابو )؛ لكن ما هي الغاية منها إذا لم تكنْ فنّاً، يجب أن تقنعنا أنها ليست لشدّ الانتباه وجلب الشهرة، وليست صراخاً زائداً من ماردٍ هاربٍ من قمقم كبته.
10ـ قصيدة التأمّل ـ بما تحمله من ادّعاءات صوفية أحياناً ـ تتّجه نحو اتّباع قالبٍ واحد، هو النزوع السلبي للداخل، والدوران في حالة واحدة مشبعة بالتشاؤم والهواجس البالية الخالية من رؤيا.
11ـ الاستخدامات والإشارات، الأسطورية والتراثية، المستهلَكة والباهتة والرثّة، لا تدلّ على ثقافة الشاعر، أو أهمية النص واتّساعه شاقوليّاً، كما يظنّ؛ إنما هي قويّة بمقدار خفّتها وتغلغلها وامّحائها في القصيدة.
12ـ الفكر المجرّد، والبديهيات، ونظريات العِلْم ليست شعراً، ولو كانت شعراً لكانت كُتُب الفيزياء والرياضيات دواوين.
ـ الكلام العاطفي المباشر والسطحي ليس شعراً، فالعاطفة المستهلَكة ملهىً مفتوحٌ بالمجّان للفقراء والمحرومين.
أيها الشاعر كيف تحقّق المعادلة ؟ .
13ـ مفردة " إنشائية " متجذّرة في وعينا كمفهومٍ سلبيٍّ، لكن ماذا تعني ؟ إنّها سيطرة الأساليب الإنشائية على نصٍّ ما، ونذكّر هنا ببعض هذه الأساليب : الاستفهام ـ الأمر ـ الطلب ـ النهي ـ الرجاء ـ التمنّي ـ ... فهل تكثر هذه الإنشائية في قصائدك ؟ .
14ـ الإلقاء الانفعالي هو حالة استجداء عاطفة الجمهور، وهو غالباً يضيّعُ النصَّ، ويُشغل المنبر بالحالة المسرحية. ماذا لو استطاع المتنبي أن يسجّل لنا إلقاءه، هل كنّا سنصفّق له ؟/ لكن الإلقاء الجيّد يتكامل مع قصيدة جيدة، وهذا يكون أمام جمهور متذوّق لا ينخدع بالإلقاء.
15ـ الشعر فنٌّ، وهذا يحتّم التصاقَه بوظيفة جمالية؛ ولا نقبل له أن يتحوّل إلى مقاتلٍ، مبتعداً عن وظيفته الجمالية، لأنه بهذا يتحوّل عن كونه فنّاً.. ماذا يصبح إذاً؟ هل يبقى شعراً، أم يصبح خطاباً ؟ / وفي الوقت نفسه لا نرغب أن يكون فناً خالصاً لأننا هنا لا نتبنى آراء مدرسة الفن للفن ولا غيرها لأن الشعر فنٌّ يستعصي على التصنيف والقولبة، إنما شرطه التجاوز .
16 ـ المسابقات الأدبية ـ على ضرورتها ـ تُقيَّمُ بذائقة عددٍ محدودٍ من المحكِّمين ، وهم أبناء جيلٍ سابق ، وربما يُحبّذون من الشعر ما يلائم رؤيتهم ورؤية جيلهم ، وهذا يشجّع على تكريس المُكرَّس.
هل يصلح أن نقول: إنّ المسابقات الأدبية لا يُعوّل عليها في خلق بدائل فنية؟.
17ـ لم يَدْعُ شاعرٌ مُجيدٌ للقطيعة مع التراث، بل إلى الاستفادة منه وتجاوزه؛ .. فكن مُجيداً .
ـ تابعٌ بإشارات قرآنية أصبح استخدامها في الشعر باهتاً ومملاً:
1ـ غواية إبليس والهبوط من الجنّة ـ الاستتار بورق الجنّة بعد أكل آدم وحوّاء من الشجرة المحرّمة.
2ـ حادثة قابيل وهابيل.
3ـ حادثة الطوفان وسفينة نوح(ع) ـ اعتصام ابن نوح بالجبل.
4ـ استخدام آية (يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم).
5ـ عصا سيّدنا موسى (ع) ويده البيضاء من غير سوء ـ دكّ الجبل بعد التجلي عليه ـ عبادة العجل ـ المَنّ والسلوى ـ السبت والقردة.
6ـ قصّة سيّدنا يوسف (ع) مع أخوته، وحلم الأحد عشر كوكباً، والذئب وقميص الدم ـ قصّته مع امرأة العزيز والقميص الذي قُدّ من دُبُر ـ تقطيع النسوة أيديهنّ ـ رؤيا الملك وتأويل النبي يوسف لها.
7ـ صبر سيّدنا أيوب (ع).
8ـ هدهد سيّدنا سليمان (ع) وبلقيس.
9ـ حادثة صلب المسيح (ع) ـ هزّ السيدة مريم لجذع النخلة.
10ـ قصّة أصحاب الكهف.
11ـ كون الأقصى مسرى الرسول (ص) وأنه القِبلة الأولى.
12ـ استخدام الآية ( ولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ).
13ـ استخدام الآية ( ادخلوها بسلام آمنين ).
14ـ استخدام الآية ( فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان ).
15ـ الآية (إنّ أوهن البيوت لبيتُ العنكبوت).
16ـ الطيور الأبابيل ، وحجارة سجّيل.
***********************